لباب التأويل، ج ٤، ص : ٣٥٧
بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان. وقيل سماه ثقيلا لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. وقيل ثقيلا في الوحي وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم «كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة»، (ق) عن عائشة رضي اللّه عنها «أن الحارث بن هشام سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل إلي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» (م) عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه» وفي رواية «كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه» قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقا أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد، وقوله تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم. وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ.
روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار. وقرئ وطأ بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد على المصلي وأثقل. من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشد وأثقل وقال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن يحصوا ما فرض اللّه عليهم من القيام وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وقيل أثبت للخير وأحفظ للقراءة من النهار وقيل هي أوطأ للقيام وأسهل على المصلي من ساعات النهار لأنه خلق لتصرف العباد والليل والخلوة برب العباد ولأن الليل أفرغ للقلب من النهار ولا يعرض له في الليل حوائج وموانع مثل النهار وأمنع من الشيطان وأبعد من الرياء وهو قوله تعالى : وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أصوب قراءة وأصح قولا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات وقيل معناه أبين قولا بالقرآن.
والحاصل أن عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأبعد عن الرياء وأكثر بركة وأبلغ في الثواب وأدخل في القبول.
[سورة المزمل (٧٣) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك واشتغالك. وقيل فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصا وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعا والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه. وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند اللّه. وقيل معناه وتوكل عليه توكلا واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة اللّه وطاعته.


الصفحة التالية
Icon