البحر المحيط، ج ١، ص : ١٥٨
راجعة إلى منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتا للنعت الأول، نحو قولك : يا أيها الفارس ذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضا نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفا آخر، لأن العطف أصله المغايرة.
وجعل : بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشا، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشا وبناء على الحال، على أن يكون جعل بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد، وغاير اللفظ كما غاير في قوله : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «١»، لأنه قصد إلى ذكر جملتين، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد. وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص، فيكون المراد أرضا مخصوصة، وهي كل ما تمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشا. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان. فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتا أو حصونا ومنازل، أو لبعض الحيوانات وحشا وطيرا يفترشون منها أوكارا، ويكون الامتنان على هذا مشتملا على كل من جعل الأرض له قرارا. وغلب خطاب من يعقل على من لا يعقل، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهم ومصالحهم، فخلقها من جملة المنة على من يعقل. وقرأ يزيد الشامي : بساطا، وطلحة :
مهادا. والفراش، والمهاد، والبساط، والقرار، والوطاء نظائر.
وقد استدل بعض المنجمين بقوله : جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً على أن الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية ما استقر ماء البحار فيها. أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك، لأن الآية لا تدل على أن الأرض مسطحة ولا كرية، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش، سواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها. قال الزمخشري : وإذا كان يعني الافتراش سهلا في الجبل، وهو وتد من أوتاد الأرض، فهو أسهل في الأرض ذات الطول
(١) سورة الأنعام : ٦/ ١.