البحر المحيط، ج ١، ص : ١٥٩
والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح، قالوا : لأنه يجوز أن تكون كرية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر اللّه تعالى لا بمقتضى الهيئة، انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكري مقرا للماء إذا كان ذلك الشكل ثابتا غير دائر، أما إذا كان دائرا فيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكريّ. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة.
وقوله تعالى : وَالسَّماءَ بِناءً : هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى : وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «١»، شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقف البيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل : سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء، كالخيام والمضارب والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصى عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «٢». وقيل : سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء : يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة.
فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لو لا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتا فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرج به : والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها

_
(١) سورة الذاريات : ٥١/ ٤٧.
(٢) سورة فاطر : ٣٥/ ٤١.


الصفحة التالية
Icon