البحر المحيط، ج ١، ص : ١٧
فهذه سبعة وجوه، لا ينبغي أن يقدم على تفسير كتاب اللّه إلا من أحاط بجملة غالبها من كل وجه منها، ومع ذلك فاعلم أنه لا يرتقي من علم التفسير ذروته، ولا يمتطي منه صهوته، إلا من كان متبحرا في علم اللسان، مترقيا منه إلى رتبة الإحسان، قد جبل طبعه على إنشاء النثر والنظم دون اكتساب، وإبداء ما اخترعته فكرته السليمة في أبدع صورة وأجمل جلباب، واستفرغ في ذلك زمانه النفيس، وهجر الأهل والولد والأنيس، ذلك الذي له في رياضه أصفى مرتع، وفي حياضه أصفى مكرع، يتنسم عرف أزاهر طال ما حجبتها الكمام، ويترشف كؤوس رحيق له المسك ختام، ويستوضح أنوار بدور سترتها كثائف الغمام، ويستفتح أبواب مواهب الملك العلام، يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد، وينفتح له ما استغلق إذ بيده الإقليد.
وأما من اقتصر على غير هذا من العلوم، أو قصر في إنشاء المنثور والمنظوم، فإنه بمعزل عن فهم غوامض الكتاب، وعن إدراك لطائف ما تضمنه من العجب العجاب، وحظه من علم التفسير إنما هو نقل أسطار، وتكرار محفوظ على مر الأعصار، ولتباين أهل الإسلام في إدراك فصاحة الكلام، وما به تكون الرّجاجة في النظام، اختلفوا فيما به إعجاز القرآن، فمن توغل في أساليب الفصاحة وأفانينها، وتوقل في معارف الآداب وقوانينها، أدرك بالوجدان أن القرآن أتى في غاية من الفصاحة لا يوصل إليها، ونهاية من البلاغة لا يمكن أن يحام عليها، فمعارضته عنده غير ممكنة للبشر، ولا داخلة تحت القدر. ومن لم يدرك هذا المدرك، ولا سلك هذا المسلك، رأى أنه من نمط كلام العرب، وأن مثله مقدور لمنشئ الخطب. فإعجازه عنده إنما هو بصرف اللّه تعالى إياهم عن معارضته ومناضلته، وإن كانوا قادرين على مماثلته. والقائلون بأن الإعجاز وقع بالصرف، هم من نقصان الفطرة الإنسانية في رتبة بعض النساء حين رأت زوجها يطؤ جارية فعاتبته، فأخبر أنه ما وطئها، فقالت له : إن كنت صادقا فاقرأ شيئا من القرآن، فأنشدها بيت شعر قاله، ذكر اللّه فيه ورسوله وكتابه، فصدقته، فلم ترزق من الرزق ما تفرق به بين كلام الخلق وكلام الحق.
وحكى لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر، رحمه اللّه تعالى عن بعض من كان له معرفة بالعلوم القديمة، ومعرفة بكثير من العلوم الإسلامية، أنه كان يقول له : يا أبا جعفر، لا أدرك فرقا بين القرآن وبين غيره من الكلام. فهذا الرجل وأمثاله من علماء المسلمين يكون من الطائفة الذين يقولون بأن الإعجاز وقع بالصرفة. وكان بعض شيوخنا ممن له تحقق