البحر المحيط، ج ١، ص : ١٨
بالمعقول، وتصرف في كثير من المنقول، إذا أراد أن يكتب فقرا فصيحة، أتى لبعض تلامذته وكلفه أن ينشئها له. وكان بعض شيوخنا، ممن له التبحر في علم لغة العرب، إذا أسقط من بيت الشعر كلمة أو ربع البيت، وكان المعين بدون ما أسقط لا يدرك ما أسقط من ذلك، وأين هذا في الإدراك من آخر إذا حركت له مسكنا أو سكنت له محركا في بيت أدرك ذلك بالطبع وقال إن هذا البيت مكسور، ويدرك ذلك في أشعار العرب الفصحاء، إذا كان فيه زحاف ما، وإن كان جائزا في كلام العرب، لكن يجد مثل هذا طبعه ينبو عنه ويقلق لسماعه. هذا، وإن كان لا يفهم معنى البيت، لكونه حوشى اللغات أو منطويا على حوشى.
فهذه كلها من مواهب اللّه تعالى، لا تؤخذ باكتساب، لكن الاكتساب يقويها، وليس العرب متساوين في الفصاحة، ولا في إدراك المعاني، ولا في نظم الشعر، بل فيه من يكسر الوزن، ومن لا ينظم ولا بيتا واحدا، ومن هو مقل من النظم، وطباعهم كطباع سائر الأمم في ذلك، حتى فحول شعرائهم يتفاوتون في الفصاحة، وينقح الشاعر منهم القصيدة حولا حتى يسمى قصايد الحوليات، فهم مختلفون في ذلك.
وكذلك كان بعض الكفار حين سمع القرآن أدرك إعجازه للوقت، فوفق وأسلم، وآخر أدرك إعجازه فكفر، ولج في عناده بغيا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده، فنسبه تارة إلى الشعر وتارة إلى الكهانة والسحر، وآخر لم يدرك إعجاز القرآن، كتلك المرأة العربية التي قدمنا ذكرها، وكحال أكثر الناس، فإنهم لا يدركون إعجاز القرآن من جهة الفصاحة. فمن أدرك إعجازه، فوفق وأسلم بأول سماع سمعه، أبو ذر، رضي اللّه عنه، قرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أوائل فصلت آيات فأسلم للوقت، وخبره في إسلامه مشهور.
وممن أدرك إعجازه وكفر عنادا عتبة بن ربيعة، وكان من عقلاء الكفار، حتى كان يتوهم أمية بن الصلت أنه هو، يعني عتبة يكون النبي المنبعث في قريش. فلما بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم، حسده عتبة وأضرابه، مع علمهم بصدقه، وأن ما جاء به معجز. وكذلك الوليد بن المغيرة،
روي عنه أنه قال لبني مخزوم : واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنّه يعلو وما يعلى، ومع هذا الاعتراف غلب عليه الحسد والأشر، حتى قال، ما حكى اللّه عنه : إن هذا إلّا سحر يؤثر، إن هذا إلّا قول البشر.
وممن لم يدرك إعجازه، أو أدرك وعاند وعارض، مسيلمة الكذاب، أتى بكلمات زعم أنها أوحيت إليه، انتهت في الفهاهة والعي والغثاثة، بحيث صارت هزأة للسامع،


الصفحة التالية
Icon