البحر المحيط، ج ١، ص : ١٩
وكذلك أبو الطيب المتنبئ. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن أبي الطيب الباقلاني، في كتاب الانتصار في إعجاز القرآن، شيئا من كلام أبي الطيب مما هو كفر. وذكر لنا قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن علي بن وهب القشيري أن أبا الطيب ادعى النبوة، واتبعه ناس من عبس وكلب، وأنه اختلق شيئا أدعى أنه أوحى إليه به سورا سماها العبر، وأن شعره لا يناسبها لجودة أكثره ورداءتها كلها، أو كلاما هذا معناه، وإنما أتينا بهذه الجملة من الكلام، ليعلم أن أذهان الناس مختلفة في الإدراك على ما شاء اللّه تعالى وأعطى كل أحد.
ولنبين أن علم التفسير ليس متوقفا على علم النحو فقط، كما يظنه بعض الناس، بل أكثر أئمة العربية هم بمعزل عن التصرف في الفصاحة والتفنن في البلاغة، ولذلك قلت تصانيفهم في علم التفسير، وقل أن ترى نحويا بارعا في النظم والنثر، كما قل أن ترى بارعا في الفصاحة يتوغل في علم النحو. وقد رأينا من ينسب للإمامة في علم النحو، وهو لا يحسن أن ينطق بأبيات من أشعار العرب، فضلا عن أن يعرف مدلولها، أو يتكلم على ما انطوت عليه من علم البلاغة والبيان. فأنى لمثل هذا أن يتعاطى علم التفسير؟.
وللّه در أبي القاسم الزمخشري حيث قال في خطبة كتابه في التفسير ما نصه : إن إملاء العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها. علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه، وإجالة النظر فيه، كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، فالفقيه، وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم، وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار، وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ، وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي، وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي، وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلّا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة اللّه، وحرص على استيضاح معجزة رسول اللّه، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانا ورجع إليه، ورد ورد عليه، فارسا في علم الإعراب، مقدما في جملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس درا كاللمحجة وإن لطف شأنها، منتبها على الرمزة وإن خفي مكانها، لا كزا جاسيا، ولا غليظا جافيا، متصرفا ذا