البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٠
دربة بأساليب النظم والنثر، مرتاضا غير ريض بتلقيح نبات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه، ووقع في مداحضه ومزالقه. انتهى كلام الزمخشري في وصف متعاطي تفسير القرآن، وأنت ترى هذا الكلام وما احتوى عليه من الترصيف الذي يبهر بجنسه الأدباء، ويقهر بفصاحته البلغاء، وهو شاهد له بأهليته للنظر في تفسير القرآن، واستخراج لطائف الفرقان.
وهذا أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي، أجل من صنف في علم التفسير، وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير. وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس، وخلدا في الأحياء وإن هداني في الرمس، وكلامهما فيه يدل على تقدمهما في علوم، من منثور ومنظوم، ومنقول ومفهوم، وتقلب في فنون الآداب، وتمكن من علمي المعاني والإعراب، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب الزمخشري ما يدل على أنهما فارسا ميدان، وممارسا فصاحة وبيان.
وللزمخشري تصانيف غير تفسيره، منها : الفائق في لغات الحديث، ومختلف الأسماء ومؤتلفها، وربيع الأبرار، والرائض في الفرائض، والمفصل، وغير ذلك.
وقد ذكر الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى قلائد العقيان ومحاسن الأعيان أبا محمد بن عطية، فقال : فيه نبعة روح العلا، ومحرز ملابس الثنا، فذ الجلالة، وواحد العصر والأصالة، وقار كما رسا الهضب، وأدب كما اطرد السلسل العذب، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار. وقد أثبت من نظمه ما ينفح عبيرا، ويتضح منيرا، وأورد له نثرا كما نظم قلائد، ونظما تزدان بمثله أجياد الولائد، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم، ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم، أبقت له ذكرا مخلدا على جبين الدهر، وعرفا أرجا كتضوع الزهر.
ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين، والذهب الإبريز من العين، ويتيمة الدر من اللآلي، وليلة القدر من الليالي، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما، وثنوا أعنة الاعتناء إليهما. وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز، ثنيت إليهما عنان الانتقاد، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد. إنهما