البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٠٤
الذي بعد إلا منصوبا على الاستثناء فتقول : ما ضربت إلا زيدا، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا، وما مررت إلا عمرا، تريد ما ضربت أحدا إلا زيدا، وما مررت إلا عمرا، قال الشاعر :
نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته، ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة.
فعلى هذا الذي قد قعده النحويون يجوز في الفاسقين أن يكون معمولا ليضل، ويكون من الاستثناء المفرغ، ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء، ويكون معمول يضل قد حذف لفهم المعنى، والفاسق هو الخارج من طاعة اللّه تعالى. فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر.
قال الزمخشري : الفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر اللّه بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمن والكافر. وقالوا : إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء، رضي اللّه عنه وعن أشياعه. وكونه بين بين، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح، ويوارث، ويغسل، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالكافر في الذم، واللعن، والبراءة منه، واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل شهادته. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه، ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب اللّه تعالى : بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ «١»، يريد اللمز والتنابز، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «٢»، انتهى كلام الزمخشري. وهو جار على مذهبه الاعتزالي، والذي عليه سلف هذه الأمة : أن من كان مؤمنا وفسق بمعصية دون الكفر، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه، وأنه لم يخرج بفسقه عن الإيمان، ولا بلغ حد الكفر. وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنبا فقد كفر بعد إيمانه. ومنهم من قال : من أذنب بعد الإيمان فقد أشرك. ومنهم من قال : كل معصية نفاق، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق. وذهبت المعتزلة إلى ما ذكره الزمخشري، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيها، فإن الأمة كانوا على قولين، فأحدثوا قولا ثالثا فسموا معتزلة لذلك، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين.

_
(١) سورة الحجرات : ٤٩/ ١١.
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٦٧.


الصفحة التالية
Icon