البحر المحيط، ج ١، ص : ٢١٢
من التراب، وخلق سائر المكلفين من أولاده، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، من النطف. قال : واختلفوا، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز، لأن الميت من يحله الموت، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتا قط، فكيف يندرج في قوله : وَكُنْتُمْ أَمْواتاً؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتا، من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحما.
والإماتة الثانية هي المعهودة، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأول والموت الأول، والإحياء الثاني حقيقة، وأما كونهم أمواتا، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب، لأنه على كل حال موجود، فقرب اتصافه بالموت، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوما وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طينا، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتا، ألا ترى ما أطلق عليه في اللغة لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودا لا عدما صرفا؟ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «١»، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «٢»، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «٣»، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «٤»، وتقول العرب : أرض موات. وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول : هو الخمول، والإحياء الأول : هو التنويه والذكر، فمجاز بعيد هنا، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله :
فأحياكم، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب. ومن قال : إن الموت الأول : هو المعهود، والإحياء الأول هو للمسألة، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه، أي وتكونون أمواتا فيحييكم، كقوله : أَتى أَمْرُ اللَّهِ. وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة.

_
(١) سورة يس : ٣٦/ ٣٣.
(٢) سورة فصلت : ٤١/ ٣٩.
(٣) سورة فصلت : ٤١/ ٣٩.
(٤) سورة الأنبياء : ٢١/ ٣٠.


الصفحة التالية
Icon