البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٣٩
يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه للّه تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه، ثم أردفوا الوصف بالعلم، الوصف بالحكمة، لأنه سبق قوله : إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فلما صدر من هذا المجعول خليفة، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله : وجعله خليفة.
فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه اللّه، ثم اعترفوا بالجهل، ثم نسبوا إلى اللّه العلم والحكمة، وناسب تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة، لأنه المتصل به في قوله : وَعَلَّمَ، أَنْبِئُونِي، لا عِلْمَ لَنا. فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو العلم، فناسب ذكره متصلا به، ولأن الحكمة إنما هي آثار العلم وناشئة عنه، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة. ولأن يكون آخر مقالهم مخالفا لأوله حتى يبين رجوعهم عن قولهم : أَتَجْعَلُ فِيها، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة، يكون الحكيم صفة ذات، وعلى القول بأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل. وأنت : يحتمل أن يكون توكيدا للضمير، فيكون في موضع نصب، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع، والعليم خبره، أو فضلا فلا يكون له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده، والأحسن أن يحمل العليم الحكيم على العموم، وقد خصه بعضهم فقال : العليم بما أمرت ونهيت، الحكيم فيما قدرت وقضيت. وقال آخر : العلم بالسر والعلانية، والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول.
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ : نادى آدم باسمه العلم، وهي عادة اللّه مع أنبيائه، قال تعالى : يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا «١»، يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «٢»، يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «٣»، يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «٤»، يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «٥»، ونادى محمدا نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ «٦» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ «٧». فانظر تفاوت ما بين هذا النداء
(١) سورة هود : ١١/ ٤٨.
(٢) سورة هود : ١١/ ٤٦.
(٣) سورة الصافات : ٣٧/ ١٠٤ - ١٠٥.
(٤) سورة القصص : ٢٨/ ٣٠.
(٥) سورة المائدة : ٥/ ١١٠.
(٦) سورة المائدة : ٥/ ٤١.
(٧) سورة الأنفال : ٨/ ٦٤ و٦٥ و٦٧.