البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٩١
المضارع هنا مبتدأ تقديره : وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال : لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر، وهو أن يكون اللّه قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ. والحق الذي كتموه هو أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية، والسدّي، ومقاتل، أو الإسلام، قاله الحسن، أو يكون الحق عامّا فيندرج فيه أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن، وما جاء به صلّى اللّه عليه وسلّم وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف اقتصارا، إذ المقصود :
وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالما أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل، وقد قدروا حذفه حذف اختصار، وفيه أقاويل ستة : أحدها : وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلّى اللّه عليه وسلّم. الثاني : وأنتم تعلمون البعث والجزاء. الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل. وقال الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين، قال : وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى. فكان ما قدّره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية : وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى.
ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه، لأن المكتوم قد يكون حقا وغير حق، فإذا كان حقا وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنبا، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال :
ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد اللّه : وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلا من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار،