البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٩٧
تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولا، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر :
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه فليس على شيء سواه بخزان
فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجا عن أفعال العقلاء، خصوصا في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب اللّه، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله : أَفَلا تَعْقِلُونَ بأقوال : أفلا تعقلون : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلا ترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلا تمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «١» الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة، وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سببا للرغبة في المعصية، لأنه يقال :
لو لا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا :
مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قبله أولا
وقال عليّ كرم اللّه وجهه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك، وجاهل متنسك.
ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى : لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ، ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق للّه تعالى، قالوا : التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطابا لبني إسرائيل، فهو عام من حيث المعنى. وعن محمد بن واسع : بلغني أن ناسا من أهل الجنة أطلعوا على

_
(١) سورة الصف : ٦١/ ٢.


الصفحة التالية
Icon