البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٩٩
إلى دار الجزاء، فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجي فيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال :
إنه خطاب للمؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال : لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال : ولا يبعد أن يكون الخطاب أولا لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ : الضمير عائد على الصلاة. هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية : أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل : يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله : وَاسْتَعِينُوا، فيكون مثل اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «١»، أي العدل أقرب، قاله البجلي. وقيل : يعود على إجابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قاله الأخفش. وقيل : على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل : يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل : يعود على جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله : اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إلى وَاسْتَعِينُوا. وقيل : المعنى على التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال : وإنهما كقوله : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «٢» في بعض التأويلات، وكقوله :
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وقول الشاعر :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه، وأظهرها ما بدأنا به أولا، قال مؤرج في عود الضمير : لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى : انْفَضُّوا إِلَيْها «٣»، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارة أهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطف بالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعود الضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة : ثقلها وصعوبتها
(١) سورة المائدة : ٥/ ٨.
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٣٤.
(٣) سورة الجمعة : ٦٢/ ١١.