البحر المحيط، ج ١، ص : ٣٨٤
بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وأن الإشارة بقوله ذلِكَ بِما عَصَوْا إشارة إلى الكفر والقتل، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر، ويعود الاعتداء إلى القتل، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكر أولا شيئين وهما : الضرب والمباءة، وقابلهما بشيئين وهما : الكفر والقتل، فجاء هذا لفا ونشرا في المؤمنين، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس.
وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولا، منها : أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون، والأكل من ثمراتها ما يشتهون، ثم كلفوا النزر من العمل والقول، وهو دخول بابها ساجدين، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة، فخالفوا في الأمرين فعلا وقولا، جريا على عادتهم في عدم الامتثال، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم، وذلك بأن دعا اللّه لهم بالسقيا، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم، من قرع الصفا بالعصا، عيونا يجري بها ما يكفيهم من الماء، معينا على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق، وأمروا بالأكل منه والشرب، ثم نهوا عن الفساد، إذ هو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا : فَادْعُ لَنا رَبَّكَ، وذلك جري على عادته معهم، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائدا عليهم بصلاح دينهم ودنياهم، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطا رديئة، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر، بخلاف ما رزقهم اللّه، إذ هو شيء واحد جيد، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك.
كان الخليل بن أحمد، رحمه اللّه، يستف دقيق الشعير، ويشرب عليه الماء العذب، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومبائتهم بغضبه، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب