البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٨٩
وما تسأل. وقرأ ابن مسعود : ولن تسأل، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف، والمعنى على الاستئناف أنك لا تسأل عن الكفار ما لهم لم يؤمنوا، لأن ذلك ليس إليك، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «١»، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «٢»، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «٣». وفي ذلك تسلية له صلّى اللّه عليه وسلّم، وتخفيف ما كان يجده من عنادهم، فكأنه قيل : لست مسؤولا عنهم، فلا يحزنك كفرهم. وفي ذلك دليل على أن أحدا لا يسأل عن ذنب أحد، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى »
. وأما الحال فعطف على ما قبلها من الحال، أي وغير مسؤول عن الكفار ما لهم لا يؤمنون، فيكون قيدا في الإرسال، بخلاف الاستئناف. وقرأ نافع ويعقوب : ولا تسأل، بفتح التاء وجزم اللام، وذلك على النهي، وظاهره : أنه نهى حقيقة، نهي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسأل عن أحوال الكفار.
قال محمد بن كعب القرظي : قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :«ليت شعري ما فعل أبواي»، فنزلت
، واستبعد في المنتخب هذا، لأنه عالم بما آل إليه أمرهما. وقد ذكر عياض أنهما أحييا له فأسلما. وقد صح أن اللّه أذن له في زيارتهما، واستبعد أيضا ذلك، لأن سياق الكلام يدل على أن ذلك عائد على اليهود والنصارى ومشركي العرب، الذين جحدوا نبوّته، وكفروا عنادا، وأصروا على كفرهم. وكذلك جاء بعده : وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى إلا إن كان ذلك على سبيل الانقطاع من الكلام الأول، ويكون من تلوين الخطاب وهو بعيد. وقيل : يحتمل أن لا يكون نهيا حقيقة، بل جاء ذلك على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب، كما تقول : كيف حال فلان، إذا كان قد وقع في بلية، فيقال لك : لا تسأل عنه. ووجه التعظيم :
أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما ذلك الشخص فيه لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره، أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل، فيكون معنى التعظيم : إما بالنسبة إلى المجيب، وإما بالنسبة إلى المجاب، ولا يراد بذلك حقيقة النهي.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ :
روي أن اليهود والنصارى طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الهدنة، ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم، فأطلعه اللّه على سر خداعهم، فنزلت نفي اللّه رضاهم عنه إلا بمتابعته دينهم
، وذلك بيان أنهم
(١) سورة الشورى : ٤٢/ ٤٨.
(٢) سورة القصص : ٢٨/ ٥٦.
(٣) سورة الرعد : ١٣/ ٧.
(٤) سورة الأنعام : ٦/ ١٦٤.