البحر المحيط، ج ١، ص : ٦٠٨
ذكر رحبا على مراعاة المكان، وأنث فسيحة على اللفظ. وقرأ الأعمش وطلحة : مثابات على الجمع، وقال ورقة بن نوفل :
مثابا لا فناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الطلائح
ويروى : الذوابل. ووجه قراءة الجميع أنه مثابة لكل من الناس، لا يختص به واحد منهم، سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. ومثابة، قال مجاهد وابن جبير معناه : يثوبون إليه من كل جانب، أي يحجونه في كل عام، فهم يتفرّقون، ثم يثوبون إليه أعيانهم أو أمثالهم، ولا يقضي أحد منهم وطرا، وقال الشاعر :
جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال ابن عباس : معاذا وملجأ. وقال قتادة والخليل : مجمعا. وقال بعض أهل اللغة، فيما حكاه الماوردي : أي مكان. إثابة : واحدة من الثواب، وأورد هذا القول ابن عطية احتمالا منه. والألف واللام في قوله للناس : أما لاستغراق الجنس على مذهب من يرى أن الناس كلهم مخاطبون بفروع الإيمان، وإما للجنس الخاص على مذهب من لا يرى ذلك. وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل : جعل هنا بمعنى :
خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره : مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة.
وقيل : يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس. والأمن : مصدر جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع به من الأمن، أو على حذف مضاف، أي ذا أمن، أو على أنه أطلق على اسم الفاعل مجازا، أي آمنا، كما قال تعالى : اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «١»، وجعله آمنا، اختلفوا، هل ذلك في الدنيا أو في الآخرة؟ فمن قال : إنه في الدنيا، فقيل معناه : أن الناس كانوا يقتتلون، ويغير بعضهم على بعض حول مكة، وهي آمنة من ذلك، ويلقى الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه، لأنه تعالى جعل لها في النفوس حرمة، وجعلها أمنا للناس والطير والوحش، إلا الخمس الفواسق، فخصصت من ذلك على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأما من أحدث حدثا خارج الحرم، ثم أتى الحرم، ففي أمنه من أن يهاج فيه خلاف مذكور في الفقه. وقيل معناه : إنه آمن لأهله، يسافر أحدهم الأماكن البعيدة، فلا يروعه أحد.
وقيل : معناه : إنه يؤمن من أن يحول الجبابرة بينه وبين من قصده. ومن قال هذا الأمن في الآخرة، قيل : من المكر عند الموت. وقيل : من عذاب النار. وقيل : من بخس ثواب من

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ١٢٦.


الصفحة التالية
Icon