البحر المحيط، ج ١٠، ص : ١٦٥
أنفسهم أو مصفوفين، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلا، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة وصفا وكأنهم، قال الزمخشري : حالان متداخلان. وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفا. انتهى.
ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون.
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : لِمَ تُؤْذُونَنِي، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات اللّه تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه، وَقَدْ تَعْلَمُونَ : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه، فرتبوا على علمهم أنه رسول اللّه ما لا يناسب العلم وهو الإذاية، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع، والمضارع هنا معناه المضي، أي وقد علمتم، كقوله : قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ «١»، أي قد علم، قَدْ نَرى تَقَلُّبَ «٢». وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل، فَلَمَّا زاغُوا عن الحق، أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. قال الزمخشري : بأن منع ألطافه، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ : لا يلطف بهم، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره : أسند الزيغ إليهم، ثم قال : أَزاغَ اللَّهُ كقوله تعالى : نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «٣»، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب، بخلاف قوله : ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «٤».
ولما ذكر شيئا من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ذكر أيضا شيئا من قصة عيسى عليه السلام. وهناك قال : يا قَوْمِ لأنه من بني إسرائيل، وهنا قال عيسى :
يا بَنِي إِسْرائِيلَ من حيث لم يكن له فيهم أب، وإن كانت أمه منهم. ومصدقا ومبشرا :
حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب اللّه الإلهية، ولئن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول اللّه هل بعدنا من أمة؟ قال :
«نعم، أمة أحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من اللّه
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٤٤.
(٣) سورة الحشر : ٥٩/ ١٩.
(٤) سورة التوبة : ٩/ ١١٨.