البحر المحيط، ج ١٠، ص : ١٨٩
الجوارح، كما قال تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «١». وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل، لا المعنى القائم بالصورة.
ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم، ثم ما خص منه، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها، وهذا كله في معنى الوعيد، إذ هو تعالى المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب. وقرأ الجمهور :
ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ بتاء الخطاب وعبيد عن أبي عمرو، وأبان عن عاصم : بالياء.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ : الخطاب لقريش، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها، وقد سمعت قريش أخبارهم، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ : أي مكروههم وما يسوؤهم منه. ذلِكَ : أي الوبال، بِأَنَّهُ :
أي بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث اللّه تعالى من البشر رسولا، كما استبعدت قريش، فقالوا على سبيل الاستغراب : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا، وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا؟ وارتفع أَبَشَرٌ عند الحوفي وابن عطية على الابتداء، والخبر يَهْدُونَنا، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية، لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل، فالمسألة من باب الاشتغال.
فَكَفَرُوا : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات، أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأمّلوها، بل عقبوا مجيئها بالكفر، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ : استفعل بمعنى الفعل المجرد، وغناه تعالى أزلي، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم، وليست استفعل هنا للطلب. وقال الزمخشري : معناه : وظهر استغناء اللّه حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. والزعم :
تقدم تفسيره، والذين كفروا : أهل مكة، وبلى : إثبات لما بعد حرف النفي، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ : أي لا يصرفه عنه صارف.

(١) سورة التين : ٩٥/ ٤.


الصفحة التالية
Icon