البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٢٠
بالجنة، وإن كان قوماهما كافرين. كان ذلك تصرّفا في ملكه على ما سبق قضاؤه، فقال :
تَبارَكَ : أي تعالى وتعاظم، الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ : وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وكثيرا ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله : فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «١»، بِيَدِكَ الْخَيْرُ «٢»، وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل. وعن ابن عباس :
ملك الملوك لقوله تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «٣»، وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس. ومعنى خَلَقَ الْمَوْتَ : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة، استعارة من فعل المختبر. وفي الحديث أنه فسر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا : أي أحسن عقلا وأشدّكم خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا، وإن كان أقلكم تطوعا.
وعن ابن عباس والحسن والثوري : أزهدكم في الدنيا. وقيل : كنى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقع فيها، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها، فكأنه قال : هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وصفهما بالمصدرين، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس.
وليبلوكم متعلق بخلق. وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مبتدأ وخبر، فقدر الحوفي قبلها فعلا تكون الجملة في موضع معموله، وهو معلق عنها تقديره : فينظر، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم.
وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين تعلق قوله : أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بفعل البلوى؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا، وإذا قلت : علمته أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول : علمته هو أحسن عملا. فإن قلت : أيسمى هذا تعليقا؟ قلت : لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعا، كقولك : علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّرا بحرف الاستفهام وغير مصدّر به؟ ولو كان تعليقا لا فترقت الحالتان، كما افترقتا في قولك :
علمت أزيد منطلق، وعلمت زيدا منطلقا. انتهى. وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقا، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول، وجاءت بعده جملة استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف نفي، كانت الجملة معلقا عنها الفعل، وكانت في
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ٢٦.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ٢٦.