البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٤٩
إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ : مملوء غيظا على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم. وقال ذو الرمة :
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
وتقدمت مادة كظم في قوله : وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «١». وقرأ الجمهور : تَدارَكَهُ ماضيا، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل. وقرأ عبد اللّه وابن عباس : تداركته بتاء التأنيث وابن هرمز والحسن والأعمش : بشد الدال. قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك، والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله. وقال بعض المتأخرين :
هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية، أي لو لا أن كان يقال تتداركه، ومعناه :
لو لا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم اللّه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ، ونحوه قوله : فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ «٢» وجواب لَوْ لا قوله : لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم، كما قال : فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ «٣»، والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقا، بل بقيد الحال. وقيل : لنبذ بعراء القيامة مذموما، ويدل عليه فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «٤». ثم أخبر تعالى أنه فَاجْتَباهُ : أي اصطفاه، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ : أي الأنبياء. وعن ابن عباس : رد اللّه إليه الوحي وشفعه في قومه.
ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه، أخبر بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال : وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ : أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة، أو ليهلكونك من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله. وقال الشاعر :
يتعارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزل مواطن الأقدام
وقال الكلبي : ليزلقونك : ليصرفونك. وقرأ الجمهور : لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلق ونافع : بفتحها من زلقت الرجل، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر، نحو شترت عينه بالكسر، وشترها اللّه بالفتح. وقرأ عبد اللّه وابن عباس والأعمش وعيسى : ليزهقونك.
وقيل : معنى لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ : ليأخذونك بالعين، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد.
قال ابن الكلبي : كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع

(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٣٤.
(٢) سورة القصص : ٢٨/ ١٥.
(٣) سورة الصافات : ٣٧/ ١٤٥.
(٤) سورة الصافات : ٣٧/ ١٤٣.


الصفحة التالية
Icon