البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٨٢
من سد سمعه ومنع بصره، ثم كرر صفة دعائه بيانا وتوكيدا. لما ذكر دعاءه عموم الأوقات، ذكر عموم حالات الدعاء. وكُلَّما دَعَوْتُهُمْ : يدل على تكرر الدعوات، فلم يبين حالة دعائه أولا، وظاهرة أن يكون دعاؤه إسرارا، لأنه يكون ألطف بهم. ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه، فلما لم يجد له الإسرار، انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهارا صلتا بالدعاء إلى اللّه لا يحاشي أحدا، فلما لم يجد عاد إلى الإعلان وإلى الأسرار. قال الزمخشري : ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. انتهى. وكثيرا كرر الزمخشري أن ثم للاستبعاد، ولا نعلمه من كلام غيره، وانتصب جهارا بدعوتهم، وهو أحد نوعي الدعاء، ويجيء فيه من الخلاف ما جاء في نصب هو يمشي الخوزلى.
قال الزمخشري : أو لأنه أراد بدعوتهم : جاهرتهم، ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا : أي مجاهرا به، أو مصدرا في موضع الحال، أي مجاهرا. ثم أخبر أنه أمرهم بالاستغفار، وأنهم إذا استغفروا در لهم الرزق في الدنيا، فقدم ما يسرهم وما هو أحب إليهم، إذ النفس متشوفة إلى الحصول على العاجل، كما قال تعالى : وَأُخْرى تُحِبُّونَها، نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ «١»، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «٢»، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «٣» الآية، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ «٤». قال قتادة : كانوا أهل حب للدنيا، فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها. وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرار الدعاء قحطوا وأعقم نساؤهم، فبدأهم في وعده بالمطر، ثم ثنى بالأموال والبنين. ومِدْراراً : من الدر، وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث، ومفعال لا تلحقه التاء إلا نادرا، فيشترك فيه المذكر والمؤنث. تقول : رجل محدامة ومطرابة، وامرأة محدابة ومطرابة، والسماء المطلة، قيل :
لأن المطر ينزل منها إلى السحاب، ويجوز أن يراد السحاب والمطر كقوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم البيت، الرجاء بمعنى الخوف، وبمعنى الأمل. فقال أبو عبيدة وغيره :
لا تَرْجُونَ : لا تخافون، قالوا : والوقار بمعنى العظمة والسلطان، والكلام على هذا وعيد وتخويف. وقيل : لا تأملون له توقيرا : أي تعظيما. قال الزمخشري : والمعنى : ما
(٢) سورة الأعراف : ٧/ ٩٦.
(٣) سورة المائدة : ٥/ ٦٦.
(٤) سورة الجن : ٧٢/ ١٦.