البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٢٩٣
وأَنَّهُ اسْتَمَعَ في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله أي استماع نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف في قوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «١»، وهي قصة واحدة. وقيل : قصتان، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى، والسورة التي استمعوها، قال عكرمة : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «٢». وقيل : سورة الرحمن. ولم تتعرض الآية، لا هنا ولا في سورة الأحقاف، إلى أنه رآهم وكلمهم عليه الصلاة والسلام. ويظهر من
الحديث «أن ذلك كان مرتين : إحداهما : في مبدأ مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وهو في الوقت الذي أخبر فيه عبد اللّه بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن، وقد كانوا فقدوه عليه الصلاة والسلام، فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه. فلما أصبح، إذا هو جاء من قبل حراء، وفيه أتاني داعي الجن، فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم. والمرة الأخرى : كان معه ابن مسعود، وقد استندب صلّى اللّه عليه وسلم من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن، فلم يقم أحد غير عبد اللّه بن مسعود، فذهب معه إلى الحجون عند الشعب، فخط عليه خطا وقال : لا تجاوزه. فانحدر عليه صلّى اللّه عليه وسلم أمثال الحجر يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن حتى غشوه فلا أراه فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في الأرض حتى ما أراهم».
الحديث. ويدل على أنهما قصتان، اختلافهم في العدد، فقيل : سبعة، وقيل :
تسعة، وعن زر : كانوا ثلاثة من أهل حران، وأربعة من أهل نصيبين، قرية باليمن غير القرية التي بالعراق. وعن عكرمة : كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل، وأين سبعة من اثني عشر ألفا؟
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً : أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، ووصفوا قرآنا بقولهم عَجَباً وصفا بالمصدر على سبيل المبالغة، أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه، وحسن مبانيه، ودقة معانيه، وغرابة أسلوبه، وبلاغة مواعظه، وكونه مباينا لسائر الكتب. والعجب ما خرج عن أحد أشكاله ونظائره. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ : أي يدعو إلى الصواب. وقيل : إلى التوحيد والإيمان. وقرأ الجمهور : الرُّشْدِ بضم الراء وسكون الشين وعيسى : بضمهما وعنه أيضا : فتحهما. فَآمَنَّا بِهِ : أي بالقرآن. ولما كان

(١) سورة الأحقاف : ٤٦/ ٢٩.
(٢) سورة العلق : ٩٦/ ١.


الصفحة التالية
Icon