البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٣٥٩
أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء، والنطفة أريد بها الجنس، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ «١»، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة. وقال الزمخشري :
نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا : نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيرا له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالا لا يكون مفردا. قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسما للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. نَبْتَلِيهِ : نختبره بالتكليف في الدنيا وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة، فعلى هذا هي حال مصاحبة، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليا له بالتكليف في ذلك الوقت. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل :
نبتليه بالإيجاد والكون في الدنيا، فهي حال مقارنة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل. فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً نبتليه، أي جعله سميعا بصيرا هو الابتلاء، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، والمعنى يصح بخلافه، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين، وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب لذلك، وهما أشرف الحواس، تدرك بهما أعظم المدركات.
ولما جعله بهذه المثابة، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى. وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة. وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم. وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوما منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. انتهى، وهو على طريق الالتزام. وقرأ الجمهور : إِمَّا بكسر الهمزة فيهما وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد اللّه السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا :
يلحقها إما شمال عرية وإما صبا جنح العشي هبوب