البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٣٧٩
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : وَلا يُؤْذَنُ مبنيا للمفعول. وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن، مبنيا للفاعل، أي اللّه تعالى، فَيَعْتَذِرُونَ : عطف على وَلا يُؤْذَنُ داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسببا عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسببا فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب، وجعل دليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ للكفار، وَالْأَوَّلِينَ : قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء. فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ : أي في هذا اليوم، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين اللّه وأولياءه، فَكِيدُونِ اليوم، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرا من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. وقرأ الجمهور : فِي ظِلالٍ جمع ظل والأعمش : في ظلل جمع ظلة.
كُلُوا وَاشْرَبُوا : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول، ويدل عليه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. كُلُوا وَتَمَتَّعُوا : خطاب للكفار في الدنيا، قَلِيلًا : أي زمانا قليلا، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا : من قال إنها مكية، قال هي في قريش ومن قال إن هذه الآية مدنية، قال هي في المنافقين. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف، قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة، فأبى وقال :«لا خير في دين لا صلاة فيه».
ومعنى اركعوا : اخشعوا للّه وتواضعوا له بقبول وحيه. وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة وخص من أفعالها الركوع، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، لأن كل جملة منها فيها إخبار اللّه تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل