البحر المحيط، ج ١٠، ص : ٤٥٧
وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة اللّه تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه.
وأخذ الزمخشري هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء اللّه، والغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء اللّه، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي، انتهى. وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام اللّه تعالى، بل ولا في كلام فصيح.
وكذلك القول بأن لا في فَلا تَنْسى للنهي، والألف ثابتة لأجل الفاصلة، وهذا قول ضعيف. ومفهوم الآية في غاية الظهور، وقد تعسفوا في فهمها. والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه، وأنه لا ينسى إلا ما شاء اللّه، فإنه ينساه إما النسخ، وإما أن يسن، وإما على أن يتذكر. وهو صلّى اللّه عليه وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه، فإن وقع نسيان، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة.
ومناسبة سَنُقْرِئُكَ لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى، استثنى ما شاء اللّه أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ : أي جهرك بالقرآن، وَما يَخْفى : أي في نفسك من خوف التفلت، وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه، وتضمن ذلك إحاطة علمه بالأشياء. وَنُيَسِّرُكَ معطوف على سَنُقْرِئُكَ، وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض، أي يوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، يعني في حفظ الوحي. وقيل : للشريعة الحنيفية السهلة. وقيل : يذهب بك إلى الأمور الحسنة في أمر دنياك وآخرتك من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة. ولما أخبر أنه يقرئه وييسره، أمره بالتذكير، إذ ثمرة الإقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم. والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى، وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش، أي إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى في هؤلاء الطغاة العتاة، ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى، فهو كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
كما تقول : قل لفلان وأعد له إن سمعك فقوله : إن سمعك إنما هو توبيخ وإعلام أنه لن يسمع. وقال الفراء والنحاس والزهراوي والجرجاني معناه : وإن لم ينفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني. وقيل : إن بمعنى إذ، كقوله : وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ


الصفحة التالية
Icon