البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٠٧
لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر، لكونهما حركة وسكونا، فهما ضدان، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلها في التشبيه، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به. وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر فيه إلى المعنى.
وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به. وعلى هذا مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١»، وقوله تعالى : ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
«٢». فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول : ومثل الذين مبتدأ، خبره كمثل، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس. وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ، أو كالمنعوق به، فيكون من باب القلب. وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه، فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه. وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن، لأنها من أبله الحيوان، فهي تحمق راعيها. وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين.
وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف، يوم هوازن : راعي ضأن واللّه، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء، فلما لقيه دريد قال :
أراك سقت المال والنساء؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم. فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان واللّه لأصحبتك، وقال الشاعر :
أصبحت هزأ لراعي الضان يهزأ بي ماذا يريبك مني راعي الضان

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٦١.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١١٧.


الصفحة التالية
Icon