البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٠٨
إِلَّا دُعاءً وَنِداءً : هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغا وأن إلّا زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل.
وقد ذهب الأصمعي، رحمه اللّه، إلى ذلك في قوله :
حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة، وأورد بعضهم هنا سؤالا فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء ونداء، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمهم بأنهم لا يسمعون إلا الدعاء؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز. فالجواب : أن في الكلام إيجارا، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها، وإنما يفهم شيئا يسيرا، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض. انتهى كلامه. وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال :
إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، لأن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصوت. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ : تقدم الكلام على هذه الكلم. فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس، قضى بأنهم لا يعقلون. كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس، إذ لا بد في كسبها من الحواس. انتهى. قيل : والمراد العقل الاكتسابي، لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب. ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث، كان إعراضهم عنها فقدا للعقل المكتسب، ولهذا قيل : من فقد حسا فقد فقد عقلا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بين لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل. فلما بين ما حرم، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل
قوله صلى اللّه عليه وسلم، لما سئل عما يلبس المحرم فقال :«لا يلبس القميص ولا السراويل»
، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ.
والذين آمنوا : جمع من آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويجوز أن يراد أهل المدينة، فاللفظ عام والمراد خاص. وقيل : هذا الخطاب مؤكد لقوله : يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ.