البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٣
ويكون الرسول عليكم شهيدا، أي محتجا بالتبليغ. وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد. وقيل : شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار. وأسباب هذه الشهادة، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة، كالشهادة على الزنا، وبخبر الصادق، كالشهادة على الشهادة وبالاستفاضة، كالشهادة على الأنساب وبالدلالة، كالشهادة على الأملاك، وكتعديل الشاهد وجرحه. وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد، والأنبياء، وأمة محمد، والجوارح. انتهى. ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهودا، وسمي العارف : شاهدا ومشاهدا، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات. قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله : أُمَّةً وَسَطاً، أي عدولا خيارا. وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا الوقت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم. الثالث : يكون حجة عليهم. الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم، قاله عطاء، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين، والرسول شهيد معدل مزك لهم. وروي في ذلك حديث. وقد تقدم أيضا ما روى البخاري في ذلك. واللام في قوله :
لتكونوا هي، لام كي، أو لام الصيرورة عن من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سببا لجعلهم خيارا، أو عدولا ظاهرا. وأما كون شهادة الرسول عليهم سببا لجعلهم خيارا، فظاهر أيضا، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله :
عَلَيْكُمْ شَهِيداً فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيدا أشبه