البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٤٣
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل، وحرّم ما حرّم، ثم اتبع بذكر من أخذ مالا من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلّا النار، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي حفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مال بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل اللّه وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول، لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان.
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة، لأن من كان مؤمنا يندر منه وقوع القتل، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم، ونبه أيضا على أنه، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجا له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.
وأصل الكتابة : الخط الذي يقرأ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات، أي :
فرض وأثبت، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه.
وقيل : هو على حقيقته، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء.
وقيل : معنى كتب : أمر، كقوله : ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «١» أي : التي أمرتم بدخولها.
وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٢» فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «٣» وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، وفِي الْقَتْلى في هنا للسببية، أي : بسبب القتلى، مثل :«دخلت امرأة النار في هرة».
والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه، أو يكون ذلك خطابا مع القاتل، والتقدير، يا أيها القاتلون، كتب
(١) سورة المائدة : ٥/ ٢١.
(٢) سورة المجادلة : ٥٨/ ٢٢.
(٣) سورة الأعراف : ٧/ ١٥٦. [.....]