البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٥٠
إلّا ما كان من الكاذب، فإنه يكون أول مفارق له، لكن لا يناسب قول الزمخشري هنا :
وترى كثيرا إلى آخر كلامه إثر قوله : فإن قلت إلى آخره، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة، فليس من باب الجرأة، واختراع اللغة.
وبني الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحدا أو أكثر، هذا إن أريد بأخيه المقتول. أي : من دم أخيه، وقيل : شيء لأن معناه : شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله، أو أن يعفو بعض الورثة أو كلهم، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص، ولا يجب إلّا الدية، وقيل : من عفي له هو وليّ الدم، وعفي هنا بمعنى يسّر لا على بابها في العفو، ومن أخيه : هو القاتل، وشيء : هو الدية، والاخوة هي : اخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل : المقتول، أي : من قبل أخيه المقتول، وهذا القول قول مالك، فسر المعفوّ له بوليّ الدم، والأخ : بالقاتل، والعفو بالتيسير، وعلى هذا قال مالك : إذا جنح الوليّ إلى العفو على أخذ الدّية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه.
وغير مالك يقول : إذا رضي الوليّ بالدية فلا خيار للقاتل، ويلزم الدية، وقد روي هذا عن مالك، ورجحه كثير من أصحابه، ويضعف هذا القول أن عفى بمعنى : يسر لم يثبت.
وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، وتكون : عفا بمعنى : فضل، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر، أي : أفضلت الحالة له، أو الحساب، أو القدر، وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفى هنا بمعنى :
أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع، ثم بينت الحكم إذا تداخلت، والقول الأول أظهر كما قلناه، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفى بمعنى : ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون عفى لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع شيء، هو لكونه مصدرا أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري : أن عفى بمعنى : ترك لم يثبت.


الصفحة التالية
Icon