البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٦
علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه. فيكون هذا من مجاز الحذف، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز، لأن بالعلم يقع التمييز، أي لنميز التابع من الناكص، كما قال تعالى : حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «١»، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب، ويراد به المسبب. وحكي هذا التأويل عن ابن عباس، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب. فليس المعنى لنحدث العلم، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا، إذ اللّه قد علم في القدم من يتبع الرسول. واستمر العلم حتى وقع حدوثهم، واستمرّ في حين الاتباع والانقلاب، واستمر بعد ذلك. واللّه تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده. أو على أنه أراد بالعلم التثبيت، أي لنثبت التابع، ويكون من إطلاق السبب، ويراد به المسبب، لأن من علم اللّه أنه متبع للرسول، فهو ثابت الاتباع. أو على أنه أريد بالعلم الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن، وفي كلام العرب، بذكر العلم، كقولك : زيد عصاك، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي، التقدير : لما علمنا، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف. فهذه كلها تأويلات في قوله : لنعلم، فرارا من حدوث العلم وتجدّده، إذ ذلك على اللّه مستحيل. وكل ما وقع في القرآن، مما يدل على ذلك، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات. ونعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة، كما تقول : علمت أزيد في الدار أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم.
وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله : مِمَّنْ يَنْقَلِبُ، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله :
يَتَّبِعُ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري : ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير اللّه تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول،

_
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٧٩.


الصفحة التالية
Icon