البحر المحيط، ج ٢، ص : ١٧٧
وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب دارك أدلوها بأقوام
ويقال : أدلى فلان بحجته : قام بها، وتدلى من كذا أي : هبط. قال :
كتيس الظباء الأعفر انضرجت له عقاب تدلت من شماريخ ثهلان
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى : أولا : بكتب القصاص وهو : إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانيا بكتب الوصية وهو : إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثا إلى كتب الصيام، وهو : منهك للبدن، مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه اللّه على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة :
الإيمان، والصلاة، والزكاة، فأتى بهذا الركن الرابع، وهو : الصوم.
وبناء كُتِب َ
للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو : اللّه تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى اللّه تعالى، وإن كان اللّه تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى : كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «١» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «٢» أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٣» وهذا من لطيف علم البيان.
أما بناء الفعل للفاعل في قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «٤» فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو : حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك، نحو : ضرب زيد بسوط، لأن ما احتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر

_
(١) سورة الأنعام : ٦/ ٥٤.
(٢) سورة المجادلة : ٥٨/ ٢١.
(٣) سورة المجادلة : ٥٨/ ٢٢.
(٤) سورة المائدة : ٥/ ٤٥.


الصفحة التالية
Icon