البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٠١
الأكل والشرب واللباس، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشا وحلفاءها، ومن دان بدينها، وهم الحمس. وهذا قول الجمهور.
وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها.
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات، إلّا أن : ثم، على هذا، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق، وقد قال : فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا الإفاضة قد تقدّمت، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.
أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها، إنما كان المأمور به ذكر اللّه إذا فعلت، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها، ألا ترى أنك تقول : إذا ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيدا مأمورا بالضرب، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس، وزعم بعضهم أن : ثم، هنا بمعنى الواو، لا تدل على ترتيب، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم، تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب.
وقد حمل بعض الناس : ثم، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا، فجعل : ثُمَّ أَفِيضُوا معطوفا على قوله : وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ كأنه قيل :
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها، تلك الإفاضة المأمور بها، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة، وننزه القرآن عن حمله عليه، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى، والمخاطبون بقوله ثُمَّ أَفِيضُوا جميع المسلمين، وقد قال بهذا : الضحاك، وقوم معه، ورجحه الطبري، وهو يقتضيه ظاهر القرآن. وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، يأتي : ثم، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره وبعد