البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٠٢
ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال : ثم أفيضوا، التفاوت ما بين الإفاضتين، وأن أحدهما صواب والثانية خطأ. انتهى كلامه.
وليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن : ثم، تسلب الترتيب، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها، ولم يجز في الآية أيضا ذكر الإفاضة الخطأ فيكون : ثم، في قوله : ثم أفيضوا، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما، ولا نعلم أحدا سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم.
و : من حيث، متعلق : بأفيضوا، و : من، لابتداء الغاية، و : حيث، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان، وقال القفال : من حيث أفاض الناس، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين، لأن الأولى في المكان، والثانية في الزمان، ولا تغاير، لأن كلّا منهما يقتضي الآخر ويدل عليه، فهما متلازمان. أعني : مكان الإفاضة من عرفات، وزمانها. فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء العطف بثم.
و : الناس، ظاهره العموم في المفيضين، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس، كما تقول : هذا مما يفعله الناس، أي عادتهم ذلك، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة، وقيل : جميع العرب دون الحمس، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به، وقيل : إبراهيم وحده، وقيل : آدم وحده، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع، وكذلك من له صفات كثيرة، ومنه قوله :
فأنت الناس إذ فيك الذي قد حواه الناس من وصف جميل
ويؤيده قراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناس، بالياء من قوله : وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «١» وإطلاق الناس على : واحد من الناس هو خلاف الأصل، وقد رجح هذا بأن قوله : مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم، ولا يلزم هذا الترجيح، لأن : حيث، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته، كقوله تعالى :
(١) سورة طه : ٢٠/ ١١٥.