البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣٠٣
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «١». وتارة يراد به المستقبل، كقوله تعالى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ «٢» وهذا معروف في حيث، فلا يلزم ما ذكره.
وعلى تسليم أنه فعل ماض، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإفاضة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام، أو على جنسهم الخاص.
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس، حين أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتى بهم جميعا، فيبيت بها، فتوجه أبو بكر إلى عرفات، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس : يا أبا بكر : أين تجاوزنا إلى غيرنا؟
هذا موقف آبائك! فمضى أبو بكر كما أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أتى عرفات، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله : مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فوقف بها حتى غربت الشمس، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام، فوقف بها، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
وقراءة ابن جبير : من حيث أفاض الناسي، بالياء، قراءة شاذة، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم، وفيها تذكير يذكر عهد اللّه وأن لا ينسى، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك، أي : للوقوف بمزدلفة، أو لا، ويكون يراد به الجنس، إذ الناسي يراد به التارك للشيء، فكأن المعنى، واللّه أعلم : أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من المزدلفة، وأفاض من عرفات، ويكون الناسي يراد به الجنس، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا، هم التاركون للوقوف بمزدلفة، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج، وهو إبراهيم عليه السلام، بخلاف قريش، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.
قال ابن عطية : ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول : الناس، كالقاض والهاد،

_
(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٢٢.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ١٤٩ و١٥٠.


الصفحة التالية
Icon