البحر المحيط، ج ٢، ص : ٣١
وأما دخول من، ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب على النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يخالف أهل الكتاب في أمر القبلة، أي ذلك الوقت الذي أمرك اللّه فيه بالتوجه فيه إلى نحو القبلة، إن اتبعت أهواءهم، كنت ظالما واضعا الباطل في موضع الحق. انتهى كلامه.
إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أذنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال : إنه يكون جوابا لهما، لامتناع ذلك لفظا ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيدا للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملا، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معا. ودخلت إذا بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي : فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة.
وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في (كتاب التكميل) من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظا أو تقديرا، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسببا عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين : أحدهما : أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول : إذا أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطا لفعلك. وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني : أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو : إن تأتني إذن آتك، وو اللّه إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : أزورك فتقول :


الصفحة التالية
Icon