البحر المحيط، ج ٢، ص : ٥٨٨
الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها أن : من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن : من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتا، ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة. وفي الاستثناء محذوف تقديره : إلّا من اغترف غرفة بيده فشربها، أو للشرب.
وقرأ الحرميان، وأبو عمر، و : غرفة، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها، فقيل : هما بمعنى المصدر، وقيل : هما بمعنى المغروف، وقيل : الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما تحمله اليد، فإذا كان مصدرا فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال : اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفا، أي : ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولا به، قال ابن عطية : وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا : أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة.
ويتعلق : بيده، بقوله : اغتراف. قيل : ويجوز أن يكون نعتا لغرفة، فيتعلق بالمحذوف. وظاهر : غرفة بيده، الاقتصار على غرفة واحدة، وأنها تكون باليد، قال ابن عباس، ومقاتل : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال مقاتل :
ويملأ منها قربته، قيل : فيجعل اللّه فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان. قال بعض المفسرين : لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى اللّه به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر واليقظة، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان.
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أي : كرعوا فيه، ظاهره أن الأكثر شربوا، وإن القليل لم يشربوا، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه،


الصفحة التالية
Icon