البحر المحيط، ج ٢، ص : ٥٨٩
ووقع به المخالفة، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه، فبقي تحت القليل قسمان : أحدهما : لم يطعمه البتة والثانية : الذين : اغترفوا بأيديهم، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة. وقيل :
الذين شربوا وخالفوا أمر اللّه اسودت وجوههم وشفاههم، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل : بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلّا القليل الذين لم يشربوا. والقليل المستثنى أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدّي، وقيل : ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقرأ عبد اللّه، وأبيّ والأعمش : إلا قليل، بالرفع قال الزمخشري : وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى : فشربوا منه، في معنى : فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلّا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق :
(و عض زمان يا بن مروان) لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلف
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف انتهى كلامه.
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو : فشربوا منه، هو في معنى المنفي، كأنه قيل :
فلم يطيعوه، فارتفع : قليل، على هذا المعنى، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد : إلّا، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى، فالموجب فيه كالمنفي، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد : إلّا، على التأويل هنا، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب، فلذلك تأوله.
ونقول : إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد : إلّا، وجهان : أحدهما : النصب على الاستثناء وهو الأفصح : والثاني : أن يكون ما بعد : إلّا، تابعا لإعراب المستثنى منه، إن رفعا فرفع، أو نصبا فنصب، أو جرا فجر، فتقول : قام القوم إلّا زيد، ورأيت القوم إلّا زيدا، ومررت بالقوم إلّا زيد : وسواء كان ما قبل : إلّا، مظهرا أو مضمرا. واختلفوا في إعرابه، فقيل : هو تابع على أنه نعت لما قبله، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة.


الصفحة التالية
Icon