البحر المحيط، ج ٢، ص : ٦٩
الحجج الدالة على نبوّته صلى اللّه عليه وسلم. والهدى : الأمر باتباعه، أو البينات والهدى واحد، والجمع بينهما توكيد، وهو ما أبان عن نبوّته وهدى إلى اتباعه. أو البينات : الرجم والحدود وسائر الأحكام، والهدى : أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائنا من البينات والهدى.
مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ : الضمير المنصوب في بيناه عائد على الموصول الذي هو ما أنزلنا، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور : بيناه مطابقة لقوله : أنزلنا. وقرأ طلحة بن مصرّف : بينه : جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب. والناس هنا : أهل الكتاب، والكتاب التوراة والإنجيل، وقيل : الناس أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والكتاب : القرآن. والأولى والأظهر : عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كل من كتم علما من دين اللّه يحتاج إلى بثه ونشره، وذلك مفسر في
قوله صلى اللّه عليه وسلم :«من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»
، وذلك إذا كان لا يخاف على نفسه في بثه. وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفصح المرجوع إليهم في فهم القرآن. كما روي عن عثمان وأبي هريرة وغيرهما : لولا آية في كتاب اللّه ما حدثتكم. وقد امتنع أبو هريرة من تحديثه ببعض ما يخاف منه فقال : لو بثثته لقطع هذا البلعوم. وظاهر الآية استحقاق اللعنة على من كتم ما أنزل اللّه، وإن لم يسأل عنه، بل يجب التعليم والتبيين، وإن لم يسألوا، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «١».
وقال الإمام أبو محمد عليّ بن أحمد بن حزم القرطبي، فيما سمع منه أبو عبد اللّه محمد بن أبي نصر الحميدي الحافظ : الحظ لمن آثر العلم وعرف فضله أن يستعمله جهده ويقرئه بقدر طاقته ويحققه ما أمكنه، بل لو أمكنه أن يهتف به على قوارع طرق المارة ويدعو إليه في شوارع السابلة وينادي عليه في مجامع السيارة، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ويجري الأجور لمقتبسيه ويعظم الأجعال للباحثين عنه ويسني مراتب أهله صابرا في ذلك على المشقة والأذى، لكان ذلك حظا جزيلا وعملا جيدا وسعدا كريما وإحياء للعلم، وإلا فقد درس وطمس ولم يبق منه إلا آثار لطيفة وأعلام دائرة. انتهى كلامه.
أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ : هذه الجملة خبر إن. واستحقوا هذا الأمر
(١) سورة آل عمران : ٣/ ١٨٧.