البحر المحيط، ج ٢، ص : ٧٧
سعة رحمته. وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب، ذكرت آية رحمة، وإذا ذكرت آية رحمة، ذكرت آية عذاب. وتقدم شرح هاتين الصفتين، فأغنى عن إعادته. ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر لقوله : وإلهكم، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر، ولا إله إلا هو خبر ثان، والرحمن الرحيم خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد.
قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب.
روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«إن هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم».
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ : روي أنه لما نزل وَإِلهُكُمْ الآية، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزل : إِنَّ فِي خَلْقِ. ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالا بالأثر على المؤثر، وبالصنعة على الصانع، وعرفهم طريق النظر، وفيم ينظرون. فبدأ أولا بذكر العالم العلوي فقال : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ. وخلقها : إيجادها واختراعها، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله. وقيل :
خلق هنا زائدة والتقدير : إن في السموات والأرض، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء.
والآيات في المشاهد من السموات والأرض، لا في الإرادة، وهذا ضعيف، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان، ولأن الخلق ليس هو الإرادة، بل الخلق ناشىء عن الإرادة.
قالوا : وجمع السموات لأنها أجناس، كل سماء من جنس غير جنس الأحرى، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب. وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها، ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من النيرين، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة، شارقة وغاربة، نيرة وممحوّة، وعظم أجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، وإنها سبعة


الصفحة التالية
Icon