البحر المحيط، ج ٣، ص : ٢٦٨
وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان اللّه وضعها لآدم من الجنة، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذ كان قبله بيوت، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة
، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال. وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش. وقال أبو ذر : قلت يا رسول اللّه أيّ مسجد وضع أول؟ قال :
«المسجد الحرام» قلت ثم أي؟ قال :«المسجد الأقصى» قلت : كم كان بينهما؟ قال :
«أربعون سنة»
وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا أنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما. وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : أنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس. وقد بيّن صلّى اللّه عليه وسلّم :«أن بين الوضعين أربعين سنة»
وأين زمان إبراهيم من زمان سليمان! ومعنى وضع للناس : أي متعبدا يستوي في التعبد فيه الناس، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم. وقرأ الجمهور «وضع» مبنيا للمفعول. وقرأ عكرمة وابن السميفع وضع مبنيا للفاعل، فاحتمل أن يعود على اللّه، واحتمل أن يعود على إبراهيم، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفق لحديث أبي ذر. وللناس متعلق بوضع، واللام فيه للتعليل، وللذي ببكة خبر إنّ. والمعنى : للبيت الذي ببكة. وأكدت النسبة بتأكيدين :
إنّ واللام. وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة، وبالصفة التي هي وضع إمالها، وإما لما أضيفت إليه. إذ تخصيصه تخصيص لها بالمعرفة وهو للذي ببكة، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ. ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريبا منك زيد. تخصص قريب بلفظ منك، فحسن الإخبار عنه. وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال :
وأنّ حراما أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم
والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة. ويضعف أن يكون بكة هي المسجد، لأنه يلزم أن يكون الشيء ظرفا لنفسه، وهو لا يصحّ.