البحر المحيط، ج ٣، ص : ٤٢٠
لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا، كقوله :«أنى لك هذا» «١» لقوله :«من عند أنفسكم» «٢» وقوله :«من عند اللّه» «٣» انتهى كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلا عليه حرف جر غير في، أما أن يقدّر داخلا عليه من فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلّا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشري : أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله :
من عند أنفسكم، وقوله : من عند اللّه، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن اللّه تعالى، قال معناه : عمر بن الخطاب، وعليّ، والحسن، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :«يا محمد إن اللّه قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الناس، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول اللّه عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره».
فقتل
(١) سورة آل عمران : ٣/ ٣٧.
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ١٦٥.
(٣) سورة آل عمران : ٣/ ٣٧. [.....]