البحر المحيط، ج ٣، ص : ٦٢٠
والوجه الثاني : أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي، أي ورّاثا. ثم أضمر فعل أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي، بيّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في : جعلنا، مضمر محذوف، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.
الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي أي : ورّاثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون جعلنا صفة لكلّ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر، فيتعلق لكل بمحذوف، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه اللّه إنسانا من رزق اللّه، أي حظ من رزق اللّه. وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون، جعلنا موالي أي ورّاثا يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي، وفي جواز ذلك نظر.
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وقتادة وغيرهم : هي الحلف. فإنّ العرب كانت تتوارث بالحلف، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «١» وعنه أيضا هي : الحلف، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر، والوفاء بالكلف، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضا : هي المؤاخاة، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب : هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه، هو الوصية لا الميراث، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم
(١) سورة الأنفال : ٨/ ٧٥.