البحر المحيط، ج ٤، ص : ١٦٧
معنى واحد وهو رضا اللّه تعالى وفضله بالرحمة. نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم، وفي الموسم يسمعون القرآن، وتقوم عليهم الحجة، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان.
ونزلت هذه الآية عام الفتح، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم، أو في حق كافر فهو منسوخ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة. وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ، قول مرجوح. وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون بالتاء خطابا للمؤمنين، والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالا لأمر اللّه وابتغاء مرضاته، إذ أمر تعالى بقتال المشركين، وقتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش : ورضوانا بضم الراء، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة، فعنه فيه خلاف.
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا تضمن آخر قوله : أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر اللّه، النهي عن إحلال آمي البيت، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى، وجاء ما بعدها من قوله : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ «١» راجعا إلى الجملة الثانية، وهذا من بليغ الفصاحة. فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله :
ولا آمين البيت الحرام، وقوله : ولا يجرمنكم، بل هي مؤسسة حكما لا مؤكدة مسددة فيكون أصل التركيب : غير محلي الصيد وأنتم حرم، فإذا حللتم فاصطادوا. وفي الآية الثانية يكون أصل التركيب : ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجر منكم، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة، فقال : وجه النظر أن يقال : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «٢» الآية ثم يقال : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «٣» وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر، وهو من أقبح الضرائر، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه.
(٢) سورة البقرة : ٢/ ٧٢.
(٣) سورة البقرة : ٢/ ٥٤.