البحر المحيط، ج ٤، ص : ٣٢٨
تعالى. وقال القفال في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية وقيل : الأول بعد موسى ثم تاب عليهم ببعث عيسى. والثاني بالكفر بالرسول. والذي يظهر أن المعنى حسب بنو إسرائيل حيث هم أبناء الرسل والأنبياء أن لا يبتلوا إذا عصوا اللّه، فعصوا اللّه تعالى وكنى عن العصيان بالعمى والصمم، ثم تاب اللّه عليهم إذ حلت بهم الفتنة برجوعهم عن المعصية إلى طاعة اللّه تعالى، وبدئ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع أن لا يبصر من أتاه بها من عند اللّه، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه، فعرض لهم الصمم عن كلامه. ولما كانوا قبل ذلك على طريق الهداية، ثم عرض لهم الضلال، نسب الفعل إليهم وأسند لهم ولم يأت، فأعماهم اللّه وأصمهم كما جاء في قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «١» إذ هذا فيمن لم تسبق له هداية، وأسند الفعل الشريف إلى اللّه تعالى في قوله : ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «٢» لم يأت، ثم تابوا إظهارا للاعتناء بهم ولطفه تعالى بهم. وفي العطف بالفاء دليل على أنهم يعقب الحسبان عصيانهم وضلالهم، وفي العطف بثمّ دليل على أنهم تمادوا في الضلال زمانا إلى أن تاب اللّه عليهم. وقرأ النخعي وابن وثاب بضم العين والصاد وتخفيف الميم من عموا، جرت مجرى زكم الرجل وأزكمه، وحم وأحمه، ولا يقال : زكمه اللّه ولا حمه اللّه، كما لا يقال : عميته ولا صممته، وهي أفعال جاءت مبنية للمفعول الذي لم يسم فاعله وهي متعدّية ثلاثية، فإذا بنيت للفاعل صارت قاصرة، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدية أدخلت همزة التنقل وهي نوع غريب في الأفعال. وقال الزمخشري : وعموا وصموا بالضم على تقدير عماهم اللّه وصمهم أي : رماهم بالعمى والصمم كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك انتهى. وارتفاع كثير على البدل من المضمر.
وجوّزوا أن يرتفع على الفاعل، والواو علامة للجمع لا ضمير على لغة أكلوني البراغيث، ولا ينبغي ذلك لقلة هذه اللغة. وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أي : العمى والصم كثير منهم. وقيل : مبتدأ والجملة قبله في موضع الخبر. وضعف بأن الفعل قد وقع موقعه، فلا ينوي به التأخير. والوجه هو الإعراب الأول. وقرأ ابن أبي عبلة : كثيرا منهم بالنصب.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ هذا فيه تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير، إذ تقدّم قبله فعموا.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ٧١.