البحر المحيط، ج ٥، ص : ٣٣٠
اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيها الكفار قليلا فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه حين انتبه :«أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم»
والمراد بالقلّة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ولا يحمل على قلة العدد لأنه صلى اللّه عليه وسلم رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف فلا يمكن حمل ذلك على قلّة العدد وروي عن الحسن أن معنى فِي مَنامِكَ في عينك لأنها مكان النوم كما قيل للقطيفة المنامة لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة وعلى هذا فسّر النقاش وذكره عن المازني وما روي عن الحسن ضعيف، قال الزمخشري وهذا تفسير فيه تعسّف وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته والمعنى : وَلَوْ أَراكَهُمْ في منامك كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي لخرتم وجبنتم عن اللقاء وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي تفرّقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سببا لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم لأنه لو رآهم كثيرا أخبركم برؤياه ففشلتم ولما كان الرسول عليه السلام محميّا من الفشل معصوما من النقائص أسند الفشل إلى من يمكن ذلك في حقّه فقال تعالى لَفَشِلْتُمْ وهذا من محاسن القرآن ولكن اللّه سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له صلى اللّه عليه وسلم الكفار قليلا فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع وَإِذْ بدل من إِذْ وانتصب قَلِيلًا.
قال الزمخشري على الحال وما قاله ظاهر لأنّ أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأوّل كاف خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم، والثاني ضمير الكفار فقليلا وكثيرا منصوبان على الحال وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم وجعل من ذلك قوله تعالى : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فانتصاب قليلا عنده على أنه مفعول ثالث وجواز حذف هذا المنصوب اقتصارا يبطل هذا المذهب. تقول رأيت زيدا في النوم وأراني اللّه زيدا في النوم.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيرا لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم. قال ابن مسعود : لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين، قال : أراهم مائة وهذا من عبد اللّه لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من عددهم وقلّل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم :