البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٧٣
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لمّا بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أنّ الحال فيما وراء العدد مساو للحال في العدد، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه.
قال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف خفي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار كيف؟
وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى
قال :«رخص لي ربي فأزيد على السبعين»؟
(قلت) : لم يخف عليه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام : وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» وفي إظهار النبي صلى اللّه عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى. وفي هذا السؤال والجواب. غض من منصب النبوة، وسوء أدب على الأنبياء، ونسبته إليهم ما لا يليق بهم. وإذا
كان صلى اللّه عليه وسلم يقول :«لم يكن لنبي خائنة الأعين»
أو كما قال : وهي الإشارة، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل؟
حاشا منصب الأنبياء عن ذلك، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم، ولقد تكلم عند تفسير قوله : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «٢» بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أن أنقله فيه، واللّه تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك، وانتفاء هداية اللّه الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك، فهو عام مخصوص.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ : لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة، حتى أذن لهم، فكشف اللّه للرسول صلى اللّه عليه وسلم عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم، فأنزل اللّه عليه : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه الآية : أي : عن غزوة تبوك. وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا، فأذن لهم. وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد. ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير، ولذلك

(١) سورة إبراهيم : ١٤/ ٣٦.
(٢) سورة التوبة : ٩/ ٤٣.


الصفحة التالية
Icon