البحر المحيط، ج ٥، ص : ٤٧٥
وكانت غزوة تبوك في وقت شدّة الحر وطيب الثمار والظلال، فأمر اللّه نبيه أن يقول لهم : قل نار جهنم أشد حرا، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم : إذا كنتم تجزعون من حر القيظ، فنار جهنم التي هي أشدّ أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم. قال الزمخشري : قل نار جهنم أشدّ حرا استجهال لهم، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم :
مسرّة أحقاد تلقيت بعدها مساءة يوم إربها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب
انتهى. وقرأ عبيد اللّه : يعلمون مكان يفقهون، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه، ولما روى عنه الأئمة. والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى : فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره.
روي أنّ أهل النفاق يكونون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع، ولا يكتحلون بنوم.
والظاهر أنّ قوله : فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدّة العمر في الدنيا، وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي : هم لما هم عليه من الحظر مع اللّه وسوء الحال، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم كثيرا من أجل ذلك، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو
قوله عليه السلام لأمته :«لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا»
وانتصب قليلا وكثيرا على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي : ضحكا قليلا وبكاء كثيرا. وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا نعتا لظرف محذوف أي : زمانا قليلا، وزمانا كثيرا انتهى. والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى. وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله : وليبكوا كثيرا.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ : الخطاب للرسول والمعنى : فإن رجعك اللّه من سفرك هذا وهو غزوة تبوك. قيل : ودخول إن هنا وهي للممكن وقوعه غالبا إشارة إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره، إلا أن يعلمه اللّه،


الصفحة التالية
Icon