البحر المحيط، ج ٥، ص : ٥٣٠
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ :
لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة، ذكر أنهم أيضا في الدنيا لا يخلصون من عذابها. والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءة الجمهور بالياء. وقرأ حمزة : بالتاء خطابا للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود، والأعمش : أو لا ترى أي أنت يا محمد؟
وعن الأعمش أيضا : أو لم تروا؟ وقال أبو حاتم عنه : أو لم يروا؟ قال مجاهد : يفتنون، يختبرون بالسنة والجوع. وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين. وقال الحسن وقتادة :
يختبرون بالأمر بالجهاد. قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف اللّه أسرارهم وإفشائه عقائدهم، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة. وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد، ويعلمون أن ذلك من عند اللّه فيتوبون، ويذكرون وعد اللّه ووعيده انتهى. وقاله مختصرا مقاتل قال : يفضحون بإظهار نفاقهم، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين، وقد كان الحسن ينشد :
أفي كل عام مرضة ثم نقهة فحتى متى حتى متى وإلى متى
وقالت فرقة : معنى يفتنون بما يشيعه المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف، وأنّ ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم، وإليه الإشارة بقوله :
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «١» فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك. وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة، وهو غريب من المعنى. وقال الزمخشري :
يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء اللّه تعالى، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل اللّه تعالى عليه من النصر وتأييده، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون. وقرأ ابن مسعود : ولا هم يتذكرون.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ

(١) سورة الأحزاب : ٣٣/ ٦٠.


الصفحة التالية
Icon