البحر المحيط، ج ٦، ص : ١٠٦
وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية : الصواب أنها مخاطبة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى. ولذلك جاء : قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «١» وقال قوم : الكلام بمنزلة قولك : إن كنت ابني فبرني، وليس هذا المثال بجيد، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ «٢» انتهى. وهذا القول مروي عن الفراء. قال الكرماني : واختاره جماعة، وضعف بأنه يصير تقدير الآية : أأنت في شك؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك. وقيل : كنى هنا بالشك عن الضيق أي : فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك. وقيل : كنى بالشك عن العجب أي : فإن كنت في تعجب من عناد فرعون. ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد، كما أن الشك تردد بين أمرين. وقال الكسائي : معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه؟ وقال الزمخشري : فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا فسئل الذين يقرؤون الكتاب، والمعنى : أن اللّه تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، ويبالغ في ذلك فقال تعالى : فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى.
وقيل أقوال غير هذه، وقرأ يحيى وابراهيم : يقرؤون الكتب على الجمع. والحق هنا : الإسلام، أو القرآن، أو النبوة، أو الآيات، والبراهين القاطعة، أقوال. فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب، والخطاب للسامع غير الرسول. وكثيرا ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص، والمراد غيره. وروي أنه عليه السلام قال :«لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق»
وعن ابن عباس : واللّه ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم. والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولا فنهى عنه، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم.
(٢) سورة المائدة : ٥/ ١١٦.